لا يخالف أحد من المؤرخين وأهل العلم في أن السنة لم تدون في دواوين خاصة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حتى في عهد الصحابة وكبار التابعين.
وإنما بدأ هذا التدوين بمعناه الصحيح في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بجمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلف بذلك أهل العلم والثقة والإتقان كالإمام الزُّهْري وغيره.
وأما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تدوين الصحابة رضوان الله عليهم للسنة وكتابتهم، مر بمرحلتين مهمتين: مرحلة النهي عن الكتابة، ومرحلة نسخ النهي والسماح بها.
أولاً: مرحلة النهي عن الكتابة:
كانت هذه المرحلة في بداية الأمر؛ حيث نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الأحاديث خشية الخلط بين السنة والقرآن، ولأمور واعتبارات أخرى، وعمدة هذا النهي ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) ، وهو أصح ما ورد في هذا الباب.
وعن أبي سعيد قال: " جهدنا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لنا في الكتابة فأبى "، وفي رواية عنه قال: " استأذنَّا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا ".
ثانياً: نسخ النهي والسماح بالكتابة:
وهذه المرحلة جاءت بعد أن استقرت الدعوة، وارتفعت المحاذير المتوقعة من كتابة السنة في أول الأمر، فعند ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة، وقد ذكر أهل العلم أحاديث الإباحة وجواز الكتابة، وبَوَّب الإمام البخاري باباً في صحيحه قال: "باب كتابة العلم" وذكر أحاديث عدة تدل على جواز الكتابة.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟
فأمسكْتُ عن الكتابة حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصعبه إلى فيه (أي فمه) فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) .
ومما يدل على إباحة الكتابة أيضاً أن بعض الصحابة كانت لهم صحائف كتبوا فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعوه أو بعضه، فكان لعبد الله ابن عمرو صحيفة تسمى (الصادقة) ، رواها عنه حفيده عمرو بن شُعَيب، وكان لجابر بن عبد الله الأنصاري صحيفة، وكذلك أنس بن مالك كانت له صحيفة وكان يبرزها إذا اجتمع الناس.
بين النهي والإباحة:
وقد نظر أهل العلم في أحاديث النهي عن الكتابة وأحاديث الإباحة وجمعوا بين الأحاديث من عدة أوجه:
الوجه الأول:
ذهب الأغلب إلى أن النهي كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن، فلما أُمِن الالتباس، سمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين الحديث وكتابته، فكانت أحاديث الإباحة ناسخة لأحاديث المنع، وممن ذهب إلى هذا الإمامان الجليلان النووي وابن حجر عليهما رحمة الله، وطائفة كبيرة من أهل العلم.
الوجه الثاني:
وذهب قوم إلى أن النهي إنما كان عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية، فربما كتبوه معها، فنُهوا عن ذلك لخوف الاشتباه.
الوجه الثالث:
أن النهي كان في حق من يوثق بحفظه مخافة أن يتَّكل على الكتابة، وأما الإذن فهو في حق من لا يوثق بحفظه.
والخلاصة أن أوْلى الأقوال، هو القول بالنسخ، حيث كان النهي في بداية الأمر ثم نسخ بعد ذلك، لزوال المحذور من الكتابة، ويؤيد هذا عموم الألفاظ، وأنها متأخرة في الزمن، وهو قول أكثر أهل العلم.
ومن هنا يتبين بطلان قول من قال: إن السنة لم تدون في عصر الرسالة، والحق أنها دونت لكن ليس بالصورة التي تمت فيما بعد في عصور التدوين، غير أن من المجمع عليه أنها كانت محفوظة في الصدور، وفي بعض الصحائف والسطور في عصر الصحابة، وتلقاها عنهم التابعون، ثم بدأ التدوين في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عن الجميع.
المصدر: موقع إسلام ويب